سورة العنكبوت - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (العنكبوت)


        


يقول الحق جل جلاله: {ولا تُجادلوا أهلَ الكتاب إلا بالتي هي أحسن}؛ إلا بالخصلة التي هي أحسن، أي: ألطف وأرفق، وهي مقابلة الخشونة باللين، والغضب بالكظم، والمشاغبة بالنصح، بأن تدعوه إلى الله تعالى برفق ولين، وتبين له الحجج والآيات، من غير مغالبة ولا قهر. وأصل المجادلة: فتلُ الخصم عن مذهبه بطريق الحجج، وأصل: شدة الفتل، ومنه قيل للصقر: أجدل؛ لشدة فتل بدنه وقوة خلقه. والآية؛ قيل: منسوخة بآية السيف، وقيل: نزلت في أهل الذمة.
{إلا الذين ظلموا منهم}، فأفرطوا في الاعتداء والعناد، ولم يقبلوا النصح، ولم ينفع فيهم الرفق فاستعمِلوا معهم الغلظة. وقيل: إلا الذين آذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو: إلا الذين أثبتوا الولد والشريك، وقالوا: يد الله مغلولة. أو معناه: ولا تُجادلوا الذين دخلوا في الذمة، المؤدين للجزية، إلا بالتي هي أحسن، إلا الذين ظلموا: فنبذوا الذمة، ومنعوا الجزية، فمجادلتهم بالسيف. والآية تدل على جواز مناظرة الكفرة في الدين، وعلى جواز تعلم علم الكلام، الذي به تتحقق المجادلة. قاله النسفي. {وقولو آمنا بالذي أُنزل إلينا وأُنزل إليكم وإلهُنا وإلهكم واحد}؛ هذا من حسن المجادلة. قال صلى الله عليه وسلم: «إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم، وقالوا: آمنا بالله وكتبه ورسله، فإن كان باطلاً؛ لم تصدقوهم، وإن كان حقاً؛ لم تكذبوهم» {ونحن له مسلمون}؛ مطيعون له خاصة، وفيه تعريض باتخاذهم أحبارَهُم ورهبانَهم أرباباً من دون الله.
الإشارة: المناظرة بين العلماء، والمذاكرة بين الفقراء، ينبغي أن تكون برفق ولين على قلب سليم، بقصد إظهار الحق وتبيين الصواب، أو تنبيه عن الغفلة، أو ترقية في المنزلة، من غير ملاححة، أو مخاصمة، ولا قصد مغالبة؛ لأن العلم النافع، وذكر الله الحقيقي، يُهذب الطبع، ويحسن الأخلاق.
قال في الحاشية: ثم تذكّر حسن رده صلى الله عليه وسلم للقائلين له: السام عليكم، ورفقَه، وقوله لعائشة: «متى عَهدْتِنِي فاحشاً»؟ يتبين لك مناسبة الوصية بحسن المجادلة في الآية مع ما قبلها، وأن ذلك حال المقيمين للصلاة، الذاكرين الله حقيقة، وأنهم على خُلق جميل وحلم وسمت، لا يستفزهم شيء من العوارض؛ لِمَا رسخ في قلوبهم من نور القُرب الذي محى الطبع وفُحْشه. والله تعالى أعلم. اهـ.


يقول الحق جل جلاله: {وكذلك} أي: ومثل ذلك الإنزال البديع {أنزلنا إليك الكتاب} مصدقاً لسائر الكتب السماوية وشاهداً عليها، {فالذين آتيناهم الكتاب}؛ التوراة والإنجيل، {يؤمنون به}، وهم عبد الله بن سلام ومن آمن معه، وأصحاب النجاشي، أو: من تقدم عهد الرسول صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب، {ومن هؤلاء}، من أهل مكة، {من يؤمن به}، أو: فالذي آتيناهم الكتب قبلك يؤمنون به قبل ظهوره، ومن هؤلاء الذين أدركوا زمانك من يؤمن به. وإذ قلنا: إِنّ السورة كلها مكية، يكون إخباراً بغيب تحقق وقوعه، {وما يجحد بآياتنا}، مع ظهورها وزوال الشبهة عنها، {إلا الكافرون}؛ إلا المتوغلون في الكفر، المصممون عليه، ككعب بن الأشرف وأضرابه، أو كفار قريش، إذا قلنا: الآية مكية.
{وما كنت تَتْلوا من قبله}؛ من قبل القرآن {من كتاب ولا تَخُطُّه بيمينك}، بل كنت أمياً، لم تقرأ ولم تكتب، فظهور هذا الكتاب الجامع لأنواع العلوم الشريفة والأخبار السالفة، على يد أُمي؛ لم يُعْرَفْ بالقراءة والتعلم، خرق عادة، قاطعة لبغيته. وذكر اليمين، لأن الكتابة، غالباً، تكون به، أي: ما كنت قارئاً كتاباً من الكتب، ولا كَاتِباً {إِذاً لارتابَ المبطلون} أي: لو كنت ممن يخط ويقرأ لقالوا: تعلمه، والتقطه من كتب الأقدمين، وكتبه بيده. أو: يقول أهل الكتاب: الذي نجده في كتابنا أُمي لا يكتب ولا يقرأ، وليس به. وسماهم مبطلين، لإنكارهم النبوة، أو: لارتيابهم فيها، مع تواتر حججها ودلائلها.
هذا، وكونه صلى الله عليه وسلم أُمياً كَمَالٌ في حقه صلى الله عليه وسلم، مع كونه أمياً أحاط بعلوم الأولين والآخرين، وأخبر بقصص القرون الخالية والأمم الماضية، من غير مدارسة ولا مطالعة، وهو، مع ذلك، يُخبر بما مضى، وبما يأتي إلى قيام الساعة، وسرد علم الأولين والآخرين مما لا يعلم القصة الواحدة منها إلا الفاذ من أحبارهم، الذي يقطع عمره في مدارسته وتعلمه، وهذا كله في جاهلية جهلاء، بَعُد فيها العهد بالأنبياء، وبدّل الناس، وغيَّروا في كتب الله تعالى؛ بالزيادة والنقصان، ففضحهم صلى الله عليه وسلم وقرر الشرائع الماضية، فهذا كله كاف في صحة نبوته، فكانت أميته صلى الله عليه وسلم وَصْفَ كمال في حقه، ومعجزةً دالة على نبوته؛ لأنه صلى الله عليه وسلم، مع كونه أُمياً، ظهر عليه من العلوم اللدنية، والأسرار الربانية، ما يعجز عنه العقول، ولا تُحيط به النقول، مع إحكامه لسياسة الخلق، ومعالجتهم، مع تنوعهم، وتدبير أمر الحروب، وإمامته في كل علم وحكمة.
وأيضاً: المقصود من القراءة والكتابة: ما ينتج عنهما من العلم؛ لأنهما آلة، فإذا حصلت الثمرة استغنى عنهما. والمشهور أنه صلى الله عليه وسلم لم يكتب قط.
وقال الباجي وغيره: إنه كتب، لظاهر حديث الحديبية. وقال مجاهد والشعبي: ما مات النبي صلى الله عليه وسلم حتى كتب وقرأ. وهذا كله ضعيف.
قال تعالى: {بل هو} أي: القرآن {آيات بيناتٌ في صدور الذين أُوتوا العلم} اي: في صدور العلماء وحُفاظه، وهما من خصائص القرآن كون آياتِ بيناتِ الإعجاز وكونه محفوظاً في الصدور، بخلاف سائر الكتب، فإنها لم تكن معجزات، ولم تكن تُقرأ إلا بالمصاحف. قال ابن عباس: {بل هو} أي: محمد، والعلم بأنه أُمي، {آيات بينات}؛ في صدور أهل العلم من أهل الكتاب، يجدونه في كتبهم. اهـ. و{بل}: للإضراب عن محذوف، ينساق إليه الكلام، أي: ليس الأمر مما يمكن الارتياب فيه، بل هو آيات واضحات. و{في صدور}: متعلق ببينات، أو: خبر ثان لهو. {وما يجحدُ بآياتنا} الواضحة {إلا الظالمون}؛ المتوغلون في الظلم. قال ابن عطية: الظالمون والمبطلون هم كل مُكذب للنبي صلى الله عليه وسلم، ولكن عُظم الإشارة بهما إلى قريش لأنهم الأهم. قاله مجاهد. اهـ.
الإشارة: كم من وليٍّ يكون أُمياً، وتجد عنده من العلوم والحِكَم والتوحيد ما لا يوجد عند نحارير العلماء. ما اتخذ الله ولياً جاهلاً إلا علَّمه ولقد سمعت من شيخنا البوزيدي رضي الله عنه علوماً وأسراراً، ما رأيتها في كتاب، وكان يتكلم في تفسير آيات من كتاب الله على طريق أهل الإشارة، قلّ أن تجدها عند غيره، وسمعته يقول: والله ما جلست بين يدى عالم قط، ولا قرأت شيئاً من العلم الظاهر. قال القشيري: قلوبُ الخواص من العلماء بالله خزائنُ الغيب، فيها أودع براهين حقه، وبينات سرِّه، ودلائل توحيده، وشواهد ربوبيته، فقانون الحقائق في قلوبهم، وكلُّ شيء يُطلب من موطنه ومحله، فالدر يُطلب من الصدف؛ لأنه مسكنه، كذلك المعرفة، ووصف الحق يُطْلَبُ من قلوب خواصه؛ لأن ذلك قانون معرفته، ومنها ترفع نسخةُ توحيده. اهـ.


يقول الحق جل جلاله: {وقالوا} أي كفار قريش: {لولا أُنزل عليه آية من ربه} تدل على صدقه، مثل ناقة صالح، وعصا موسى، ومائدة عيسى، ونحو ذلك. وقرأ نافع وابن عامر وحفص: بالجمع؛ {آيات}، كثيرة {قل إنما الآيات عند الله}، يُنزل منها ما شاء متى شاء، ولست أملك منها شيئاً، {وإنما أنا نذير مبين}؛ إنما كلفت بالإنذار وإبانته بما أعطيت من الآيات، وليس من شأني أن أقول: أنزل على آية كذا دون آية كذا، مع علمي أن المراد من الآيات ثبوت الدلالة على نبوتي، والآيات كلها في حُكم آية واحدة في ذلك. {أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يُتلى عليهم}، أي أَوَلَمْ يكفهم إنزال آية مغنية عن سائر الآيات، إن كانوا طالبين للحق، غير متعنتين، وهو هذا القرآن الذي تدوم تلاوته عليهم في كل زمان ومكان، فلا يزال معهم آية ثابته، لا تزول ولا تنقطع، كما انقطع غيره من الآيات، وفي ذلك يقوم البوصيري:
دامَتْ لَدَيْنا فَفاقَتْ كلَّ مُعْجِزَةٍ *** مِنَ النَّبِيِّينَ إِذْ جاءَتْ ولَمْ تَدُمِ
{إن في ذلك} أي: هذه الآية الموجودة في كل زمان إلى آخر الدهر، {لرحمة}؛ لنعمة عظيمة، {وذكرى}؛ وتذكرة {لقوم يؤمنون} من دون المتعنتين. قال يحيى بن جعدة: إن ناساً من المسلمين أتوا النبي صلى الله عليه وسلم بكتب قد كتبوها، فيها بعض ما يقول اليهود، فألقاها، وقال: كفى بها حماقة، أو ضلالة قوم، أن يرغبوا عما جاء به نبيهم، فنزل: {أولم يكفهم...} إلخ.
{قل كفى بالله بيني وبينكم شهيداً} أي: شاهداً بصدق ما أدعيه من الرسالة وإنزال القرآن عليّ، وتكذبيكم، {يعلم ما في السماوات والأرض}، فهو مطلع على أمري وأمركم، وعالم بحقي وباطلكم، فلا يخفى عليه شيء. {والذين آمنوا بالباطل}، وهو ما يُعبد من دون الله، {وكفروا بالله} وبآياته منكم {أولئك هم الخاسرون}؛ المغبونون في صفقتهم، حيث اشتروا الكفر المؤدي إلى النيران، بالإيمان المؤدي إلى الخلود في الجنان. رُوي أن كعب بن الأشرف وأصحابه من اليهود قالوا: من يشهد لك بأنك رسول الله؟ فنزل: {قل كفى...} إلخ.
الإشارة: اقتراح الآيات والكرامات كله جهل وحمق؛ إذ ليس بيد النبي أو الولي شيء من ذلك، وإنما هو مأمور بالوعظ والدلالة على الله، والدعاء إليه، والكرامة لا تدل على كمال صاحبها، ربما رُزق الكرامة من لم تَكْمُلْ له الاستقامة، ليس كل من ثبت تخصيصه كَمُلَ تخليصه. وقد تظهر الكرامات في البدايات وتخفى في النهايات، والكرامة العظمى هي الاستقامة وكشف الحجاب بين الله وعبده حتى يشاهده عياناً، ويذهب عنه الأوهام والشكوك، وأما غير هذا فقد يكون استدراجاً لمن يقف معه. والله تعالى أعلم.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8